تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام مناسبة من أهم المناسبات الإسلامية العزيزة ألا وهي مناسبة الهجرة النبوية الشريفة ونحن هنا في هذه الكلمة لا نريد الحديث عن الهجرة كحدث تاريخي بحت وإنما قصدنا الوقوف عند بعض الدروس والعبر المستفادة من هذا الحدث المهم .
أولا : ماكان الرسول صلي الله عليه وعلي آله وسلم ليسمح لجماعة قليلة نسبيا بتحمل مشاق الهجرة لو لم يكن الإسلام يريد إنشاء مجتمع مسلم , ذلك أن هذا الدين إنما جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور فجاءت الهجرة تنفيذا لأوامر الله تعالي الذي أراد لنبيه والمسلمين تكوين دولة مسلمة مستقلة , فهاجروا من مكة المكرمة إلي المدينة المنورة لأنهم عاشوا في مكة تحت حصار اجتماعي واقتصادي لا يتيح حرية العبادة الشخصية فكيف بتكوين الدولة المؤمنة , ويمكن أن نأخذ الكثير من العبر والدروس من هذه الأسباب التي أدت إلى الهجرة ومن أهمها :
أ- أن طبيعة هذا الدين لا تسمح لمعتنقيه بالتبعية لأي كان أحرى أن يكونوا تابعين لمجتمع جاهلي .
ب- أن الأمة الإسلامية وهي تحمل رسالة عالمية للناس كافة لا بد أن تكون أمة مستقلة وأمة تقود ولا تقاد.
ج- أن استقلال المسلمين عن غيرهم لا يكون إلا بتحكيم المنهج الإسلامي قرآنا وسنة في كل نواحي الحياة .
د- أن أقطار الأمة الإسلامية اليوم والتي تسمي نفسها دولا مستقلة لا يمكن اعتبارها كذالك لأنها لاتملك من الاستقلال إلا الإ سم دليل ذلك أنها لا تستطيع اتخاذ أي قرار إلا بإذن الأمريكان, صحيح أن كل قطر من أقطار وطننا الإسلامي العزيز يعرف يوما يحتفل به هو يوم استقلاله عن باقي أقطار الأمة الإسلامية لا عن البلد الذي كان – ومازال – يستعمره كما أن كل قطر يملك علما يميزه عن أعلام الأقطار الأخرى, لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: ما نتيجة يوم وعلم يحتفل باليوم ويرفع العلم كل سنة والقائد الذي يحمي هذا العلم لا يملك من أمره شيئا بل هو خاضع للأمريكا والبنوك الدولية وغارق في المشكلات إلي أذنيه .
وليس معني هذا التقليل من أهمية ما حصلنا عليه حتى الآن من استقلال لكن أخشى ما أخشاه أن يعتبر المواطن المسلم أن بلاده مستقلة بالمعني الصحيح للكلمة فلا يجاهد من أجل الاستقلال الحقيقى.
ثانيا : ووقفتنا الثانية تتعلق بالمنهج الذي تربي عليه ذلك الجيل الأول من المهاجرين والأنصار فقد رباهم الرسول كما أمره الله تعالي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة , فنهلوا من المنبع الصافي وعضوا عليه بالنواجذ وفهموا المطلوب منهم اتجاه هذه الدعوة , فنقلهم ذلك المنهج من جماعة قليلة مضطهدة إلي أمة مستقلة تحمل الخير والنور للعالم ، نقلهم من جماعة أمية إلي أمة متعلمة متحضرة تتعاون علي البر والتقوى , خذ دليلا علي ذلك ما قام به المهاجرون والأنصار , فالمهاجرون تحملوا فراق الأهل والأحباب والأوطان والدور والأموال في سبيل هذه الدعوة ونشر هذا المنهج الذي ارتضاه الله لهم والأنصار استقبلوا المهاجرين وفتحوا أمامهم كل شيء فقاسموهم الدور والأموال والمزارع راضين مطمئنين قال تعلي في سورة الحشر : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولائك هم الصادقون (8) والذين تبوءو الدار والإيمان من فبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)} فابتغاء فضل الله ورضوانه ونصرة الله ورسوله دلالة صدق الإيمان وحب المؤمنين واستقبالهم ومقاسمتهم الدور والأموال وإيثارهم علي النفس مع شدة الحاجة دليل الفوز والنصر على النفس وطرد الشح والبخل وتطهير القلوب من حب الدنيا ومتاعها , كل ذلك حصل وشوهد بالعين المجردة في مجتمع المدينة الذي قاده الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بالمنهج الذي اختاره لنا الله وربانا عليه رسوله صلي الله عليه وآله وسلم.
وقبل أن نغادر الحديث عن المهاجرين والأنصار لا بد من تسجيل ملا حظة مهمة وهي أن كتب السير والتاريخ لم تسجل وهي تتحدث عن الهجرة أن أهل المدينة ضربوا خيما خارج مدينتهم للمهاجرين فلم يعرف في تاريخ الإسلام – حسب علمي – ما يسمي بمخيمات اللاجئين لأن الإسلام يربي الفرد المسلم علي العزة والكرامة يربيه إنسانا فاعلا مستقلا لا مفعولا به كما هو حال اللاجئين اليوم وحتى المهاجرين الذين فتحت لهم دور الأنصار وحصلوا علي حقوقهم كاملة لم يرضوا بذلك فدخلوا ميادين الأعمال من تجارة وزراعة وغيرها حتى أصبحوا من كبار الأغنياء في ظرف وجيز وقصة عبد الرحمن بن عوف مع أخيه سعد بن الربيع رضي الله عنهما خير دليل علي ذلك , وكان الرسول قد آخي بين المهاجرين والأنصار فصار الأخ الأنصاري يرث من أخيه المهاجري والعكس واستمر ذلك حتى نزول آية المواريث ( يوصيكم الله في أولادكم) هذه المؤاخاة زادت من لحمة مجتمع المدينة وقوته , والمجتمع الإسلامي اليوم في أمس الحاجة إلى الاستفادة من هذه التجربة الفريدة للقضاء علي الجهل والفقر والمرض لكنه لن يستفيد إلا إذا تربي علي المنهج الذي تربي عليه ذلك الجيل وحكم بنفس المنهج .
ثالثا : ووقفتنا الثالثة مع قيادة الرسول صلي الله عليه وسلم لمجتمع المدينة بجميع مكوناته , فعندما تكونت الجماعة المسلمة في مكة وهاجرت إلى المدينة وتلاحمت ونجحت في الخروج من الحصار قبلت كل القبائل قيادة الرسول مع بقاء كل قبيلة علي قيادتها التقليدية وحلفها بل وعقيدتها شأن القبائل اليهودية علي أساس القاعدة الإسلامية الفريدة ( لا إكراه في الدين) لكنها ترجع كلها إلي حكم الرسول صلي عليه وسلم عند النزاع فعاش الناس مبادئ الشورى والتسامح والرحمة والعدل وحرية الرأي واحترام الآخر وخدمته والدفاع عنه في ظل ما عرف بوثيقة المدينة المنورة وهنا لا بد من أخذ درس مهم للرد علي أولئك الذين يفترون علي هذا الدين ويقولون إنه لا يصلح لهذا العصر أو يقيسونه علي الدين الكنسي ويعزلونه عن الحياة وعن السياسة والعلم والأخلاق , فلو كان الدين الإسلامي كما يزعمون لرضي أهله وهم جماعة قليلة بالعيش بسلام مع الجاهلية الأولي ولما تعرضوا للحصار والتعذيب والطرد والقتل في سبيل إقامة الدولة الإسلامية , ويستفيد المسلم من هذه الوقفة وجوب العمل بكل الوسائل المشروعة من أجل أن يعيش المسلمون في ظل دولة إسلامية يقودها المنهج الإسلامي .
رابعا: ووقفتنا الرابعة مع دور الشباب والمرأة في هذه الهجرة فقد شارك الشباب والنساء في هذا الحدث العظيم مشاركة مقدرة فالذي نام في فراش الرسول لتضليل المشركين ورد الودائع هو الشاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه والذي كان يقوم بنقل الأخبار إلي الرسول والصديق في الغار هو الشاب عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما والتي كانت تحمل الطعام والشراب للرفيقين هي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما , فليأخذ شباب ونساء هذه الأمة العبرة من ذلك ويشمروا عن سواعد الجد ويتحملوا الأذى ويساهموا في استقلال المسلمين وبناء دولتهم ويعيشوا الإسلام كما هو .
خامسا : ووقفتنا الخامسة والأخيرة مع اختيار عمر رضي الله عنه لهذا الحدث الجلل بداية للتاريخ الإسلامي , فعند ما اجتمع الصحابة تحت رئاسته وفكروا في الاستقلال عن كل الأمم وفي كل شيء حتى في التاريخ واستعرضوا الأحداث المهمة – وكانت كثيرة في عهدهم رضوان الله عليهم – لم يختاروا بدرا على أهميتها ولم يختاروا فتح مكة علي عظم شأنه وإنما وقع الاختيار باقتراح من عمر علي الهجرة النبوية الشريفة لتكون بداية التاريخ الإسلامي المجيد , فقد رأي عمر ببصيرته أن الهجرة هي بداية استقلال المسلمين عن غيرهم وبداية تكوين مجتمعهم ودولتهم وبالتالي فهي حرية بأن تكون المناسبة الأهم التي يؤرخ المسلمون بها لتظل في وجدانهم عندما تتكرر سنويا فتحيي فيهم روح التميز والاستقلال والعزة والكرامة , رضي الله عن عمر وجزاه عنا خير الجزاء , وما أحوجنا إلي أخذ العبر والدروس بهذه المناسبة وقد تكالب علينا الأعداء وأرادوا غربلة مناهجنا لصياغتها كما يريدون , فهل يعقل أن يقبل مفكروا هذه الأمة وعلماؤها ودعاتها بالتبعية للغرب وهم يحتفلون بالذكري : 1425لتأسيس دولة الإسلام الدين الخاتم , وقبل أن أختم هذه الوقفات لا يسعني إلا أن أهنئ الأمة الإسلامية بهذه المناسبة وأهنئ قراء هذا الموقع المحترم وزواره الكرام وكل عام وانتم بخير ونسأل الله العلي القدير أن يعيد علينا هذه المناسبة وقد تحررنا من التبعية لليهود والأمريكان ومن والاهم من الحكام الظلمة إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.-نقل من قلم الشيخ الإسلامي